وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
لعل بعض طلبة العلم يُحبّ المخالفة من باب " خالِف تُعْرَف " !
وإلا فإن جماهير علماء الأمة يقولون بِصيام يوم عاشوراء .
قال النووي : وذهب جماهير العلماء من السلف والخلف بأن عاشوراء هو اليوم العاشر من المحرَّم ، وهذا ظاهر الأحاديث . اهـ .
وأما قوله عليه الصلاة والسلام : " لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع" ، فإنه غير منسوخ ، ولا يُراد به صيام اليوم التاسع وحده .
ومن أراد بيان وجه الحق فعليه أن يجمع روايات الحديث ، فإنه يستبين له وجه الحق .
ومن روايات الحديث عند مسلم :
قال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما : حين صام رسول الله صلى الله عليه و سلم يوم عاشوراء وأمَر بصيامه قالوا : يا رسول الله إنه يوم تعظمه اليهود والنصارى ، فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : فإذا كان العام المقبل إن شاء الله صُمْنا اليوم التاسع . قال : فلم يأتِ العام المقبل حتى تُوفِّي رسول الله صلى الله عليه و سلم .
فهذه الرواية تُبيّن المقصود من قوله صلى الله عليه وسلم : لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع . وأنه يُراد به مع اليوم العاشر ، وذلك من أجل مخالفة اليهود .
كما أنه قد ورد التصريح بِصيام يوم قبله :
وأما أن القول بالنسخ هو قول ابن عباس رضي الله عنهما ، ففيه تلبيس ، فابن عباس رضي الله عنهما لم يُصرِّح بأنه لا يُصام العاشر ، ولا أن الصيام انتقل إلى التاسع ، وإنما جاء عنه الأمر بصيام التاسع ، والسكوت عن صيام العاشر .
ففي رواية لمسلم مِن طريق الحكم بن الأعرج قال : انتهيت إلى ابن عباس رضي الله عنه وهو متوسد رداءه في زمزم ، فقلت له : أخبرني عن صوم عاشوراء ، فقال : إذا رأيت هلال محرم فأعدد وأصبح يوم التاسع صائما . قلت : هكذا كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يصومه ؟ قال : نعم .
فهذا ليس فيه النهي عن صيام اليوم العاشر ، ولا ادعاء أنه منسوخ .
وقد أُجِيب عن هذا بأنه مُحتَمل .
قال ابن القيم : فمَن تأمل مجموع روايات ابن عباس ، تبيَّن له زوالُ الإشكال ، وسَعة عِلم ابن عباس ، فإنه لم يجعل عاشوراء هو اليومَ التاسع ، بل قال للسائل : صُمِ اليوم التاسع ، واكتفى بمعرفة السائل أن يوم عاشوراء هو اليومُ العاشر الذي يعدُّه الناسُ كلُّهم يومَ عاشوراء ، فأرشد السائل إلى صيام التاسع معه، وأخبر أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كان يصومُه كذلك . فإما أن يكون فِعلُ ذلك هو الأَوْلى ، وإما أن يكون حَمْلُ فعله على الأمر به ، وعزمه عليه في المستقبل . اهـ . ( وذَكَر ابن القيم مسلكًا آخر لبعض أهل العلم في " زاد المعاد " فليُراجَع " .
وقال الرافعي : وفي صوم التاسع معنيان منقولان عن ابن عباس : الاحتياط ، ومخالفة اليهود . اهـ .
قال ابن حجر في " التلخيص " : والمعنيان كما قال عن ابن عباس منقولان ، وكذا القياس الذي ذَكَره منقول عنه بل مرفوع من روايته ، وقد روى البيهقي من طريق ابن أبي ذئب ، عن شعبة مولى ابن عباس قال : كان ابن عباس يصوم عاشوراء يومين ، ويُوالي بينهما مخافة أن يفوته .
فهذا المعنى الأول .
وأما المعنى الثاني فقال الشافعي : أخبرنا سفيان أنه سمع عبيد الله بن أبي يزيد يقول : سمعت ابن عباس يقول : " صوموا التاسع والعاشر ، ولا تشبهوا باليهود " . اهـ .
وقال ابن القيم : وقول ابن عباس: إن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كان يصوم التاسع ، فابْن عباس رَوى هذا وهذا ، وصحَّ عنه هذا وهذا ، ولا تنافى بينهما ، إذ من الممكن أن يصومَ التاسِعَ ، ويُخبر أنه إن بَقِي إلى العام القابل صامه ، أو يكون ابنُ عباس أخبر عن فعله مستنداً إلى ما عزم عليه ، ووعد به ، ويصِحُّ الإخبار عن ذلك مقيداً ، أي : كذلك كان يفعل لو بَقِي ، ومطلقا إذا علم الحال ، وعلى كل واحد من الاحتمالين ، فلا تنافى بين الخبرين .
وهذا القول ليس هو قول الإمام مسلم ؛ لأنه ليس فيه التصريح بأن مراده بالتاسع هو يوم عاشوراء ، وقد يغيب عن بعض طلبة العلم أن التبويب الذي في صحيح مسلم ليس مِن صنيع الإمام مسلم ، بل هو من صنيع الشُّرّاح ، وأكثر ما يُعتمد في طبعات صحيح مسلم تبويب النووي رحمه الله .
والصريح يَقضي على الْمَحْتَمَل ، فما في صحيح مسلم مُحتَمَل ، وما في مصنّف عبد الرزاق صريح صحيح في صيام التاسع مع العاشر بقصد مخالفة اليهود .
روى روى عبد الرزاق عن ابن جريج قال : أخبرني عطاء أنه سَمِع ابن عباس يقول في يوم عاشوراء : خالفوا اليهود ، وصوموا التاسع والعاشر
. وهذا إسناد صحيح .
ورواه البيهقي في " الكبرى " من طريق عبد الرزاق ، ورَواه في " شُعب الإيمان " من غير طريق عبد الرزاق .
وأما ادِّعاء النسخ ، فإن كان في نسخ وُجوب صيام يوم عاشوراء ، فهو صحيح ، وإن كان ادِّعاء نسخ استحباب صيامه فلا .
ثم إن من شرط القول بالنسخ : العِلْم بالتاريخ ، وتعارض الْجَمْع ، وتكافؤ الأدلة .
وهنا لا تعارض بين النصوص ، والْجَمْع ممكن ، وعليه جماهير السلف والخلف ، وهو صيام يوم عاشوراء ومخالفة اليهود بِصيام يوم قبله .
وقد نَقَل النووي الإجماع على استحباب صيام يوم عاشوراء . فإنه قال :اتفق العلماء على أن صوم يوم عاشوراء اليوم سُنة ليس بواجب . اهـ .
ولو افترضنا وُجود تعارض ، فإن العبرة بِما روى الراوي لا بِما رأى ، وهنا لدينا رواية ورأي ، والرواية مُقدّمة على الرأي .
وقول الصحابي إنما يكون حُجّة إذا لم يُخالفه غيره .
هذا كله على افتراض أن هذا القول هو قول ابن عباس ، وقد علمت أنه ليس بقوله ، وأن قوله مُحتمل ، وسبق القول فيه .
ومن التلبيس ادّعاء أن القول بالنسخ هو قول ابن حزم أيضا !
فإن ابن حزم قال : ونستحب صوم يوم عاشوراء وهو التاسع من المحرم ، وإن صام العاشر بعده فَحَسَن . اهـ .
فلو كان ابن حزم يرى النسخ لَمَنع من صيام اليوم العاشر !
فبقي القول بالنسخ هو قول صاحبكم !! إلاّ أن يأتي بِبَـيِّـنة على قوله !